إيفان غول...نصوص الألم

كانت بداية لقائي الأول مع غول، على أحد أرصفة عمّان بعد أربعين عاماً من وفاته، في كتاب يضم مختارات جميلة من الشعر الألماني المعاصر، ولايزال الكتاب معي بعد أن ضاع الجزء الأكبر من مكتبتي. كنت حينها مازلت اتعلّم الألمانية، وبالكاد أفكُّ طلاسمها. لم أعثر منذ ذلك الوقت على ترجمات لشعره، سوى سطرين في كتابٍ للفرنسي جاستون باشلار لم أعد أذكر عنوانه، ولا من أي قصيدة تُرجما. وكانت الترجمات في تاريخ الأدب الألماني على قلتها تمرّ على شعره، فلا تتوقّف عنده كثيراً كعادة الكتب التي تغطّي فترات زمنية طويلة. ولم يترجم له على حد علمي، د.مصطفى ماهر، أو د. عبد الغفار مكاوي رغم عملهما  المتواصل والكبير لترجمة الكثير من النصوص الألمانية الى العربية. و لم اعثر لغيرهما ممن يشتغلون في هذا الأدب على ترجمة ولوعلىنصٍ واحدٍ له ولم يكن بحثي هذا من أجل استيفاء ضرورة إتيان الترجمة وتبريرها بل لهفتي وتوقي لقراءته في لغتنا الجميلة. منذ ذلك الحين، نشأت العلاقة بيننا ولم يكن ليعطل التواصل فيها سوى ما يقتضيه تدبير العيش من تكريس يصاحبه نسيان لشؤون الكتابة أو الترجمة أوالدرس. وفي الفسحة والأخرى نلتقي لتفسير عبارة غامضة أو إيجاد صياغة عربية سليمة. فغول من أهم شعراء الألمانية في القرن الماضي، فلقد عاصر رومان رولان وشارك في الحلقات الأدبية في زوريخ ـ بعد انتقاله الى سويسرا، حيث التقى شتيفان زفايج و هانس آرب . وعندما انتقل الى باريس، التقى الشاعرة الفرنسية كلير شتودر(التي اتهمت فيما بعد بول تسيلان بسطو احدى مجموعات زوجها بعد وفاته)، وتزوجها، وخلال إقامته فيهاالتقى حلقة أبوللينير من الشعراء والرسامين. وكذلك قابل جيمس جويس. اسس عندما انتقل ال نيويورك مجلة تعنى بالأدبين الأمريكي والفرنسي ، وكان من المشاركين فيها، سان ـ جون بيرس وأندريه بريتون وهنري ميللر. كتب باللغتين الألمانية والفرنسية  وبعض النصوص بالإنجليزية. لم يتح لي التعرف الى كل نتاجه وهو غزير، سوى كتب المختارات والتي تحكمها الذائقة النقدية لصاحبها. ولكن الذي قرأته له، وبضعة مراجعات نقدية عنه، زادت من فهمي لفنّه، ولأسرار صنعته الشعرية التي تميّزه عن غيره من الشعراء الألمان. فلقد كتب أول قصيدة سوريالية في اللغة الألمانية، ومجموعته "العالم السفلي" تبين التأثير الكبير لأبوللينير وماكس جاكوب، والتي نشر بعدها  بيانه السوريالي الأول. ثم تتوالى أعماله الأخرى، راسماً لنفسه مساراً شعرياً متفرداً يتمثل في النزوع الدائم نحو اكتشاف الذات، من طريق التحولات التي تمر بها الكلمة، والتكثيف الرمزي الذي يصاحب هذه التحولات(انظر: ساعات) ، والصور التي تلعب دوراً كبيراً في بناء نصه الشعري، حيث يشرك الحواس كلها في التلقي، وينقل الشعور الحاد الذي يكتنف وجوده الهش، الى القاريء دون السقوط في ذهنية باردة أوفي غنائية باهتة.(أنظر:  لوكيميا ). وليس الحضور المادي الكثيف، في نصوصه، سوى إشارة واضحة لعناصر لغته الشعرية، والتي يوظف فيها، فيزياء التحولات، التي تمر بها هذه العناصر التي  ُيردُّ لها جسده  (أنظر: ملح وفسفور) ،  في صنع نصه الذي أستطيع تسميته نص الألم، فغول هو شاعر الألم بامتياز  إحتفاءه بالعناصر المادية مثل النار والتراب (أنظر : شجرة الغبار) والماء (انظر: ساعات، وكيف يماهي بينه وبين الزمن.) يغطي مساحة شعرية واسعة.  

 

عن الكتابة