بيتٌ في الأعالي

 

(1)

 

لطالما تاقت روحي إلى تلكَ الأعالي في الشمال. ولكنّ عيوني لم تكتحلْ برؤيتها، ولم تجرحني فتنتها...بل جُرِحَتْ هي ذاتها بحرابٍ كثيرةٍ وسال فيها دمٌ، ما زال يصعد النياسم، سالكاً الطرق الجبلية الوعرة، متسلقاً الأشجار، ومدوناً ما محاهُ اختلاط الذاكرة بالريح، ما محته الريحُ من الذاكرة.

(2)

 

البيتُ في قلب الجبلْ. مبنيٌ بالحجر ذاته. تكوينٌ شكَّلته يدُ الإنسان البنّاء. البيتُ مختلفٌ ومؤتلفٌ في آن معاً. مؤتلفٌ  مع الطبيعة الحجريةِ للجبلِ حتّى بدا وكأنّهُ امتدادٌ لها؛  مختلفٌ ، كونه يكسرُ لعبتها الأبدية، مشكلاً هندسته الفريدة.

(3)

 

في الأعالي ثمة بيتٌ  صغيرٌ، السماءُ والنهارُ يعانقان جدرانه وسقفه، يحيطان فضاءه  باللازورد والضوء الشفيف. الخريفُ يرعى عزلته. من اليسارِ يضمهُ سياجٌ مشَبّكٌ صفته الوشايةُ وسمته الانفتاح والتوحد ووظيفته حماية العزلة.

وحيداً يقفُ في جبلٍ وحيدْ.

(4)

 

كيف لي أن أصفَ ما لايوصفُ ، كأن يكون استسلامي لمتعة الحلم بسكنى مثل هذا البيت ؟

حلمي هذا لم أكنْ له يداً ، كي ألامس فيه حجريته.

أصمتُ متطلعاً الى الأعالي.

(5)

 

بضعُ درجاتٍ على السلّمِ المؤدي إليك، يا بيتُ.

تقودني بضعُ خطوات لها رنينُ الحجرْ الذي ينبت العشبُ على حوافه ويغطّيه كخصلات شعرٍ بعثرته الريح. ايقاع الصعود يتناغم مع ايقاع قلبي، الذي يريد للمسرّةِ أنْ تتسرّبَ إليه بانتشاءٍ لا يروم فقدهُ سريعاً.

أرنو إليكَ، بضعُ خطىً أُخرى الى اليمين وأصلُ: البابُ موصَد.

(6)

 

أنظرُ الى الوادي السحيق ، عميقٌ وغائرٌ في الصمتْ. أُشيحُ بوجهي عن راعي الصدى طارقاً البابْ.

ثمة مدخنةٌ على سطح البيتِ تنفثُ دخانها كأنها تكويرة سنةٍ بشفاهٍ ضجرة.

النافذةُ المغلقةُ عينٌ بجفنٍ مُسدَلٍ. رفةُ هدبكِ انفتاحٌ على الضوءْ.

(7)

 

يا صديق الأعالي والشمس. تمدُّ يديكَ لتداعب الغيومَ التي تقصدك كمزار. سريٌ أنت وغامضٌ. يُفْتَحُ الباب فأدخلُ.

يرفُّ  الهدبُ. البيتُ جناح النهار.

على العتبة أجلسُ. شيئٌ ما ينتظرُ يدي التي لم تألفُ ملمس البندقية. اُصغي الى البيت: ترنيمةُ سلام.

نبضهُ هاديءٌ وأليف. في هذه اللحظة أهجسني في قلب العالمِ، قادرٌ على أن أُصغي الى رسائل الجهات.

(8)

 

في يومٍ ليس بعيداً. أطفأَ الجبلُ زهرةَ وقته العالية، وفي يومٍ ليس يُمْحى،  نقشَ دمه، على، حجرٍ، ظلاً لجسدهِ الذي تناثرَ، لينضَّم الى الظلال الكثيرةِ التي تتجمعُ حول النارِ كل ليلةٍ حالمةً بالإياب. وأنا إذْ أستعيدُ مرارة الذكرى يملأني الخسرانَ بالعزلة، تحتدمُ فيَّ  الكلماتُ، وأنا في قلب العالي،لا أقول:

ياجبلْ. ردَّ لي ما أخذتَ منّي، ولكني أقول:

انتصب بسلامٍ أيها العالي واحتضن أبناءك التائهين، كُنْ حانياً ولا تفرِّطُ بظلال أولئك الذين التقوا أشباحهم في عُتمةِ الأرض.

(9)

 

سأحلمُ حلمي

أتشبثُ به

كما كلبُ صيدٍ

يمسكُ فريسته المدمّاة.

دمشق / حزيران / 1996

 

   نصوص أُخرى