كلامُ الدليل

الى سركون بولص

 

ـ1ـ

    لكي تصلَ الى مدينةِ "أين"، عليكَ أن   

تتحرَّرَ من الخوفِ، وتنسى ما مررتَ به من مدنٍ، لا

سيَّما تلك المدينة التي تُحرقُ فيها أجنحةُ الملائكةِ

وتُصفَّى هي ذاتها بغربالٍ كبيرٍ من أجل كنوزها.

مدينة المناديلِ السوداء، والسلالمِ التي

ما أن تهمَّ بارتقائها حتّى تشّابك الأبوابُ

أمامك، تشّابه السماءُ في النوافذِ التي تحطُّ على قضبانها

طيورٌ سودٌ لا تتقنُ صفة الهديل؛ سلالمُ شاقّةُ

الإنحدارِ لا تصلُ الى شيءٍ ولا تنتهي بشيءْ.

 

    عليك أن تنسى، فالأقدام التي غرست رسمها،

لم تورقْ سوى نصبٍ وتماثيل حنطيينَ، ولم تُقَدِّسْ

سوى الموتى، لم تُحَرِّف، في كل مرةٍ سوى تأريخها

وما حُرِقَ فيها ليس وثائق المصائر المعلقةِ من اناملها،

بل أجنحة الملائكة...

تطلَّعْ، فقد التصقَ بحذاءك الموحلِ ريشٌ محترقٌ.

    المدينة ُبعدَ تقطيرها بدنانٍ كبيرةٍ وتصفيتها بغربالٍ عظيمٍ

لم يتبقَّ منها غير الخراب.


ـ2ـ

    عليك أن تنسى تلك المدن التي ما أن ْ

تنفستَ هواءها حتّى انحفرَ على جلدك وشمها،

أغلالها التي دُسَّتْ في الحليبِ، قسَّمتْ بيتكَ،

فاقتسمهُ أسلافٌ لاتعرفهم، أورثوا أخلافهم خرائطَ ألكترونيةً

ملطَخةً وخناجرَ تلتمعُ على مقابضها الأحجارُ، لا تعرفهم

عرباتهم تسحبها خيول ٌ سودٌ حدقاتها ضيقةٌ، وعبيدهم

يتكاثرون كعشب البر و البحرِـ قيل الشعبُ عشبٌ

يخضَّرُ إذْ تجزُّهُ المناجلُ ـ

أعرِضْ عن هذا كلِّه، لأنك إن لم يكن بمقدوركَ

التحرر من تأريخِ يديكَ، فلتتحررْ،  من جغرافيا الوهم.

أنصحك بالصمتِ إذا اتخذت عربةً تجرُّها

خيولٌ دبقةٌ عيونها واسعة ٌ، فللثرثرةُ حبال

 طويلةٌ تنتهي بالسقوفْ؛

تطلَّع نحو القريبِ سريعاً يتحركُ والبعيدِ محدِّقا ً

فيك. الأذرع ُ تتقدمُ نحوك َ، تنهارُ، إذا ابقيت َ

جذوتي عينيك مشتعلتين؛


اختبر َ الكلام  الحرَّ

دع ِ الحروف ترنُّ فيك َ

كن هدبَ الأغنياتِ

وابصر بها الطريق َ

الطريقَ الطويلْ.


ـ3ـ

أمامك تنتصبُ أعمدة الرمالِ، والصورُ المعلَّقة ُ

على سماءٍ واطئةٍ، تسّاقطُ حين تلامسُ أنفاسكَ

خيوطها الواهية َ، حتّى الأصوات التي تتناهى الى

سمعك َ، شرط أنْ تنظر َ صوبَ باب الشروق ِ

يتكوَّمُ عندَ اقدامك خشخاشها. فلتحذرْ

الجيوش المهزومة تجرُّ هزائمها الثقيلة َ.

الجياع َالذين يبحثون عن حنطتهم في اجنحةِ الفراشاتِ

         يفلُّون الريحَ شعرةً شعرةً

العربات الطائشة َ

الرصاصَ الطائشَ

كلَّ ما هو طائششششششششششش

الأقاويلَ

الدروبَ المحروسة بالمنجنيقِ، بالحراس ِ

المدججينَ بخراطيم ِاللهب ِ

الصبايا الأسيراتِ

السبايا اللواتي تَسهُلُ معرفتهن من

        أكاليلِ الشوكِ تكللُ رؤوسهن الحليقةِ


 القردة َ المضيِّعين شجرة موزهم، الهائمينَ في سجلا ّت

الأحوال المدنيةِ. واخشَ

العرّافة التي تسْتَـلَّ القلب الساردَ

لقاء أكاذيبَ وتبيعه تجار الحروبِ، مقابل

دراهمَ فضيةٍ و حفنة نباحْ

أمامك َ تنتصبُ حواجزٌ وكمائنٌ من حريرٍ

وصمغ ْ.

 

ـ4ـ

عليك اجتياز جبالٍ تعتمرُ الغيمَ. تسلق

نياسم َ نحيلةٍ والمرور بكهوفٍ خطرةٍ، إذا كمنَ لك فيها،

أو برحمٍ دافيءٍ إذا خالية وجدتها ومكثتَ، مراوغاً

رعاة الجبلِ، لأنك بذاك تكسر عزلة ناياتهم،

كما غصنٍ يابسٍ. اجتنب

القرويين الذين تطأ حقولهم بخفة الضوءِ

وتلك التي تفوح منها شذى الصابونِ

       الملكي، تحلبُ ماعزها، وتقدِّم لك

       خروفها، تفرشُ دربكَ بالطحين الفرنسي


    تعطرُ سريرها بنرجس الجبلِ، ستحجِّركَ

في عتبةِ قصرها، ما أن تمسَّ أصابعك ثدييها.

أنت تعرف! الدباباتُ لا تكمن عند سفح ٍ

ضيّق ٍ، لذا ستصادف ربايا مصفحةٍ بالمزابل

المعدنية والفضلات والحديد الذي يحنُّ الى اللحم

والدمِ، الحديدُ الناريُّ الذي سينشطرُ فيكَ،

فيشطرك أشلاءً، لينثركَ، كنثار ِصخرة ٍ

لينة ٍ تنحدرُ على سفح ٍينحدرُ نحو راعي الصدى.

 

ـ5ـ

ليس َ عليك أنْ تصارع َ وحوشا ً بلْ أن

تعبرَ  أنهارأً وصحارى. لن ترَى ورداً مقطوفاً،

بل أُمراء التشابه ِ، بل أكذوبة حملٍ .

ألواحاتُ ليست بعيدة، فهزَّ نخلةٍ وكُـلْ من ثمرها؛ لكن

فلتحذرْ

الليل فالذئابُ تلتمعُ عيونها كالذهب

قطاع الطرق على سروجهم، تلتمعُ سيوفهم كالذهب

مدوِّنو الحاضر تلتمعُ معاولهم كالذهبْ


يكفيهم هذا القمر الذي لم يكتمل ْ بعدُ ليحيلوكَ

الى حكايةٍ، فإذا رويتَ، سوفَ لن تصلَ

الى "أين"؟

ولن تكون قد تركتَ في آخرِ الطريق

الطريقِ الطويلِ

سوى ريشة ٍ محترقة ٍ من أجنحةِ الملائكة ْ.

آذار 1997 / دمشق

نشرت في مجلة ألواح العدد 5 /1998

 

يدٌ معطوبةٌ تحلُم