من جلجامش إلى أوديسيوس

محمد مظلوم

  

من الألم الإنساني الذي يتدحرج عبر القرون ولا يصل إلى السكون، من هذا الألم اللازمني ذي الملامح التي تشكلها تجاربنا ورحلاتنا تحت سماء منفى واحد ووحيد، أبحث عنك يااوليس، لا لأستعيد عشبة الخلود، ولكن لأسألك عن جسد أنكيدو، وستجيبني عن أخيل حتماً، وأسألك عن أوروك، فتتذكر إيثاكا، وأصف وجه اوتنابشتم المبتسم في الطوفان، فتحرك مرآتك نحو عمى ترياسيوس الجالس في الجحيم!

هل عرفت أيها الإغريقي التائه، من أي العصور يخرج أحفادي العراقيون ليبحروا لا في قوارب سومرية بل بسفن الأوديسة ويغرقون بالتقسيط في البحر وهم يحاولون استعادة أساطيرهم!

ماذا تسمي هذا المنفى العراقي الذي تتناسل مقابره فتنجب قصصاً يتسلى أحفادك وأخوتنا وهم يرونها في جلساتهم المملة؟

هل هو مجرد هروب من طغيان الحكام ونيران الحروب التي ترسم كل يوم خارطة جديدة للوطن وتضيق من سماء الملائكة والعصافير؟

أم سفر لا يصل مدفوعاً بالألم الإنساني الأزلي؟

حرب طروادة انتهت، وأعاد الأتراك بناء إمبراطوريتهم من جديد، وحروب العراقيين تقوض حدود البلاد وتشرد العباد في كل اتجاه، وطغاته يقفلون المدن بأسوار من الدم والحديد، ويقولون هذا هو نبوخذ نصر آتٍ ليسير العبيد بقيودهم لتحرير مدنٍ من النهر إلى البحر، بينما يسبح بحمده عبيدها!

قامت مدن عدة وبقي من أوروك اسمها الذي يتغنى به الشعراء وتجار الإعلانات بكل أنواعها! ونشأت بغداد بمعالم الطغاة وحكايات عن الضحايا وأساطير عن سيوف المغول.

أصبحت أشجار النخيل خشباً لصناعة المشانق، ولم تعد مشاحيف السومريين إلا فكرة في قصيدة وتذكراً لفلكلور قريب، فلماذا تحن إلى شجر إيثاكا الملاصق لمنزلك البحري!

لا تصالح منافسيك على امرأتك، وقتلة أحبتك،ونفاة أبنائك وهم في الأرحام، ولا تتعجل الحنين لتسحق أجساد أصدقائك المكدسين على الحدود والموانئ ومكاتب الأمم المتحدة التي يبتسم فيها موظفون صغار وهم يعيدون الاستماع إلى أوديسا قديمة! أوليس الطريق إلى البيت أجمل من الوصول إلى البيت، وهل بقي لك بيت لا يبتسم فيه الطاغية بصورته الكبيرة بأسنان ليست آدمية، وبدلة تغطيها نياشين بعدد الندوب والجراح التي تركها على جثث قتلاه، وسيف تفوح منه روائح دماء الأبرياء؟ لا تعد إذن قبل أن تزيح الصورة، وتعلم كيف تشد قوسك بعناية وإن كنت عجوزاً، عندها سترفع بنيلوب حاجبيها وتعرفك من وراء لحيتك الكثة وشعرك الأشعث.

أكتب سيرة المدن التي زرتها كما تشاء، ولكن إعلم إن بغداد سرة الأرض، والجنوب أرض الآلهة، والشمال مرسى السفن الناجية من الطوفان.

تذكر آخيل مثلما أتذكر أنكيدو وأقم القرابين له وهو محاصر ما بين جحيم وطوفان.

ليكن اسمك أوليس أو أي أسم آخر، وتزوج من ساحرات البحار، وانجب أبناء على امتداد الأرض ولكن تذكر أيضاً ( إن الحياة التي تبغي لن تجد) إلا الأناشيد التي ستردد من فوق أسوار كلكامش: لقد عاد كلكامش هو الذي رأى فغنِّ باسمه يا بلادي، عندها ستستعيد اسمك: كلكامش قاتل وحش الغابة بمساعدة صديقه أنكيدو.

ضيوف