تمرين

 

متى يبدأُ صمت الشاعر او النص ـ ولا أعني هنا توقفه عن الكتابة ـ وكيف يتوقف عن الثرثرة أو العني ( من المعنى) ومتى ؟...

كثيراً ما أقراُ عن شاعر ما  يكتبُ الصمت ، ويسمى حينذاك بشاعر الصمت . ولا ادري كم مرة سألتُ نفسي ماذا أعني ، إذا قلتُ، إن شاعراً ما يكتبُ (أو ينحتُ) الصمت . النحات ذاته ـ بتبسيط شديد ـ يحاولُ ، أن ينقـُلَ صلادة الحجر (أو ليونة الطين...إلخ ) عبر معالجة سطح الكتلة من مستوى السكون والإنكماش إلى مستوى الحركة والإنفلات ويطوِّعها لكي تدخل في حوارٍ مباشرٍ مع أشياء  الفضاء. فكيف يتأتـّى لمن يحوزُ ، عبر فعل القول او الكتابة ، ثروة من الأصوات (أستطيع القول ضجيجٌ لانهائي) ، أن يوقفها عن كينونتها ، ويدخلها الصمت...وعبر ماذا؟ الكفُّ عن استعمالها مثلاً؟... نحن في منطقة الصمت الفعلي الذي هو ، ربما عكس الكتابة ( ضجيج أخرس؟ ) ، و يشبه التوقف عنها . ربما يماثلُ صوت المتفرج في قاعة السينما ، ينفعل أحياناً ، يطلقُ تنّهدات او همهمات مبهمة .

هذا الصمتُ لا يهمني الآن، ما أحاولُ مساءلته صعب الإستنطاق ، وربما غير قابلٍ للبوح. أقرا مقطعاً قصيراً:

" أكتب اليك من بلدٍ حيث تسود العتمة من دون أن يكون هناك ثمة ليل ".

فأكفُّ عن الثرثرة ، بعد أن أتوقف عن القراءة. الكلام الداخلي يتوقف هو الآخر. فأكون في منطقة الصمت ـ ألا يشبه هذا صالة السينما، حيثُ أحدِّقُ في في حجرٍ ذي عروقٍ كثيرةٍ، أو عتبة بابٍ، أو شجرة عنب معرشة حل فيها الربيع ، وملأتها العصافير ـ التي أطلقها أورفيوس بحركةٍ رشيقةٍ من يديه ـ غناءً ومرحاً. من الصمت ، من كفّ النص عن النطق فيّ. اذهبُ الى طبيعةٍ أبعد مني، أو الى عتمة أخرى أتاحها صمتٌ دأخلي.

يصمت النص أحياناً، وهذا بسب ما يدعوه "رولان بارت" بالفجوات، يرغبُ المؤلف أن يملئها القاريء بمخيلته، وربما يتكاسلُ عن ذلك فيتبدد الكلام ويتهلهلُ نسيجه. لا أتحدثُ عن مثل هذا الصمت الذي ينشاُ عن كسلٍ متبادل.

"يوجين غيفييك" الذي أوحى هذه الكلمات، أو في الحقيقة، موته ـ صمته الأخير. (مازالت نصوصه تحيا حياتها الخاصة )، ولكنه "يموتُ" صمته الخاص. يموتُ فعلٌ لايوقف ما بعده ولكنه يمارسُ فعليته التي هي حياة  سرية.

مازلت في مثال قاعة السينما، متفرجون يحدقون بعيونٍ مفتوحةٍ على اتساعها في مشاهد تتوالى، بكل فتنتها. السينما فاتنةٌ وإذ تكفُّ عن الفتنة تكفُّ عن الصمت. وهي التي تحجر الكلام ـ إذا صح التعبير ـ وتشرع صمتاً داخلياً متواصلاً. أليست السينما شبيهة بالأدب؟.

أنتقلُ من الفرجة وأقول كلمتي، وعندما أتركُ المشهد ينسابُ كجدولٍ، أُشيحُ بوجهي عنه وأتجه الى المشهد الحقيقي القريب . أي أنتقل من فضاءه الى أشياء وكائنات اخرى. شجرة حور، غبش بنجومٍ باهتةٍ، حصى لامعة، أحجار، بحرٌ واسع. وأصل الى مجاورة الأشياء الإصطناعية، أستنطقها، أعيش حياتها الداخلية(ضجيجها اللانهائي)، أستكنه جوهر علاقاتها وأحاول تلبّسها حين أبداُ باللفظ. أحول لساني الى ناطق باسمها.

هذا الإنتقال هو الذي يصنع نص الصمت ومن بعده سيصنع نص الأشياء. وأتساءل لماذا ينتقلُ شاعر انخرط في لعبة الوجود المذهلة في قرننا المشوّش، الواهم بتقدمه، المخذول...الى الصمت والأشياء؟ من يستطيع الإجابة عن سؤال تدثّر شاعره بالموت وأشاح عنا؟

ربما انتقل ليقترب أكثر من عالم الإنسان ، وأشياءه الملازمة لوجوده القصير، آمال روحه وجروحه، طموحاته المستحيلة. وهو إذ يتماهى مع المادة يحاور جوهرها. هذا الحوار الخلاق من طبيعة الفكر العظيم، الذي يمنح الشعر عمقاً وأفقاً. "يوجين" شاعر أعماق، يقتصدُ في مادته، لأنه يعشقها ولايبددها.

"لايشقنَ عليك أيها المحيط

من امرىء متواضع مثلي،

أنا لم أقل أبداً

إننا كنا صديقين

ولم اقل قط

إنني عرفتك.

ذلك هو الصحيح،

لأنني لا أقوى على معرفة العظيم.

لكن الأمر دائما

كان إذا رأيتك

عدت الى ذاتي".

إنه إذ يتأملُّ المتناهي في الكبر، يعود الى المتناهي في الصغر، لا يصلُ الى يقين في علاقته بالأشياء، يعيها كل مرة ويكتبها بشكل مختلف...تماما، فالليل ليس ليل وحسب، بل هو كائنٌ " مخيف "، " ينهض " و" يؤمنُ بنفسه ". أي يحيا في كلمات " غيفييك " حيواتٍ أخرى، " تبحثُ الغيوم عن نفسها " خلاله. ولكي يظلُّ وفياً لليليته:

"هذا الليل

لايخفي

إذ يشاء نفسه أشد قتامة".

هذا هو درس الليل، أتعلمه من "غيفيك". الليل يتماهى معه، فالعتمة، ليست من فعل الليل، حيثما لا يكون" ثمة ليل" ، إنه يعلمني كم هو لصيقٌ بذاته، بجوهره الليلي، لا يخفي ولا يتقنع:

" تتفوّه

كما لو أن جسدك

لم يكن ذاتك ".

حين أنهي هذا التمرين، أقبسُ من " موريس بلانشو" : "الصمت هو أيضاً كلام. فالصمت مستحيل. لذلك نشتهيه ".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هامش :المقاطع المشورة هنا من ترجمة الشاعر شوقي عبد الأمير

 

      عن الكتابة